تعدّ التراثات العربية من أشدّ المواضيع تعقيداً للمؤرخين، فهي تفتقر إلى الملامح المعهودة في الحوادث، وهي إلى هذا لا تنقاد بيسر للتصنيف من حيث بدايتها أو وسطها أو آخرها.
وعندما يتحدث المؤرخون عنها فهم غالب ما يستخدمون إستعارات الشفافية مثل “الأجواء” و”المناخات”، كيف تأتي إلى الوجود وكيف ترتبط بيئتها مشكلات في منتهى الصعوبة، وإن أدوات حرفة المؤرخ المألوفة؛ إبتداء بالمعجم وإنتهاءً بحذائين متينين، تبدو غير نافعة تماماً عندما ينكبّ المؤرخ على البحث في التراثات، فهي مشوشة والعناصر التي تدخل في تركيبها تنتمي أصلاً إلى بقايا تراثات أقدم عهداً، والتراث لا “يولد” خلافاً للحدث، بل يفيض عن خلفيّةٍ ثقافية ما.
وبالنسبة إلى الكتابة التاريخية أحرى أجزاء بيئة معينة بالإهتمام كثيرة ما يكون نصاً محورياً، مثاله هوميروس في التأريخ اليوناني، والكتاب المقدس في التأريخ، والقرآن الكريم في التأريخ الإسلامي، إلا أن هذه النصوص المحورية التي تلهم التراثات وتتحكم فيها إنما هي أيضاً ناتجة عن إدراكٍ مخصوص وطريقة مخصوصة في النظر إلى الماضي وتمثله.
من هنا، يرى الباحث بأنه ولدى تفحصه لجموع التأريخية، أن المؤرخين لا يعنون كثيراً، على وجه الأجيال، بالأبعاد النظرية لعملهم، وأن المظلّة المعرفية التي يستظلها المؤرخ عادة، إنما هي مستمدة إجمالاً من العلوم الإجتماعية المجاورة فــ”المعطيات أو الحوادث” أو “المحفوظات” التي يمنحها المؤرخون عادة، إنما تصل إليهم مشوبة في معظم الأحيان بنظرة مؤرخين آخرين ومتأثرين بها كتأثر الضوء عند إنكساره؛ وإن عملية التأثير والتأثر هذه لتقضي على معظم الكتابات التاريخية بأن تكون مصادر ثانوية، ثم إن مفاعيل ذلك تنضاف إلى كون المؤرخين أنفسهم عرضةً لتأثير ظروفهم في طريقة تلقيّهم الماضي وغربلته بغربالهم الخاص ونقله.
من هنا، رأى الباحث أنه لا بد له من توسيع البحث بحيث لا يقتصر على المؤرخين حصراً بل يمتدّ ليشتمل على مختلف الأطر الفكرية التي كانوا يتحركون داخلها، وكان لا بد له أيضاً، بعد تحديده هذه المظلات المعرفية من تبين كيفية إنغراسها في سياق التطورات الإجتماعية والسياسية، وعلى هذا تم تقسيم الكتاب إلى أربعة مظلات معرفية يشترط بشروط أربعة: الوجه الأول، أن تَعاقُب هذه المظلات يعبّر إجمالاً عن توالي ظهورها في الزمن.
من ذلك أن الحديث يطرح ظلاله على الكتابة التاريخية من القرن الأول إلى القرن الرابع للهجرة/ السابع إلى العاشر للميلاد، والأدب من الثالث إلى الخامس للهجرة/ التاسع إلى الحادي عشر للميلاد، والحكمة خلال القرنين الرابع والخامس للهجرة/ العاشر والحادي عشر للميلاد؛ ولكن هذه القسمة لا تعني أن هذه المظلات كانت منفصلة انفصالاً تماماً عن بعضها، ولكنها كانت متداخلة مع بعض الفرق في زمن ظهورها للمرة الأولى؛ الوجه الثاني، أن التواريخ المقترحة لنهاية كلٍّ من هذه القواسم المعرفية لا تعني طبعاً، أن تأثير هذه المظلّة أو تلك انتهى في هذا القرن أو ذاك، إنما الغرض منها تعيين الفترة التي بلغت هذه المظلة خلالها أقصى مدى نظري لها، والغاية من ذلك هي بيان كيف تطور الفكر التاريخي بالتناغم مع إتسّاع آفاق الثقافة العربية الإسلامية.
من خلال محاولة اكتناه طبيعة المحلية التطورية نفسها وأسبابها، الوجه الثالث، أن التاريخ عرضة في أية ثقافة كانت أو عصر كان لمقتضيات الحياة السياسية بأوسع ما للكلمة من معنى، فضلاً عن كونه عرضة لتيارات الفكر والإعتقاد، الوجه الرابع، أن إحدى الوسائل المهمة التي يمكن إعتمادها في تمييز مؤرخ مخصوص أو جماعة من المؤرخين تكمن، على ما بدا للباحث، في الطريقة التي حددت بها “خلفيّتهم الموروثة” موقفهم من الحق والباطل.
هذا ويذكر الباحث من أن هدفه من إقتراحه أربع مظلات أو قواسم معرفية أن يمكّنه ذلك من رؤية طبيعة تلك الخلفية وأن يسوق الأمثلة على المدى النظري للتأمل في معنى التاريخ ومنهجه، وأما منهجيته في دراسته هذه فهو تفصحه في كل فصل المظلّة المعرفية أولاً ثم إلتفاته إلى المؤرخين الذي يمكن إعتبارهم أظهر المستظلين بها للعيان.
الوزن | 508 جرام |
---|---|
اسم المؤلف | طريف الخالدي |
اسم المترجم | حسني زينه |
عدد الصفحات | 440 |
الطبعة | 1 |
سنة النشر | 2015 |
اسم دار النشر | منشورات الجمل |
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.