“لبيك اللهم لبيك” كم مرة سمعت فيها تلك التلبية في المرات الخمس التي قمت فيها بأداء فريضة الحج؟ بدا لي أنني أسمعها الآن، وأنا ممدود على الرمال بالقرب من زيد وأبي سيد بجوار النار المشتعلة، أغلقت عيني فاختفت النجوم واختفى القمر، وضعت ذراعي على عيني وأنا مستلق على ظهري، فحجبت الضوء النافد من جفوني إلى عيني، وراحت الأصوات تخفت، لا أسمع إلا “لبيك” في عقلي وخفقان تدفق الدماء في أذني.
كان الدم يخفق مثل أمواج متتابعة ترتطم بجدار سفينة، ويخفق مثلما يخفق صوت ماكينة، كنت أسمع خفقات الحاكينة وأشعر بإرتجاف سور السفينة وأشم دخانها ورغبة زيتها وأسمع نداءً “لبيك اللهم لبيك” صادر من مئات الحناجر على متن السفينة التي حملتني عند أول حج لي من ستة أعوام، من مصر إلى الجزيرة العربية فوق صفحة البحر الأحمر… تصاعد من جديد صوت التلبية: “لبيك اللهم لبيك” صيحة تهز الأعماق فيها إستسلاماً لله، وحماس انتشر بين الحجاج على السفينة وعبر صفحة الماء بإتجاه البلد الذي به معقد الآمال العظيمة كانت أملهم وأملي: بالنسبة لي كانت رؤية ساحل الجزيرة العربية خلاصة سنوات من البحث.
نظرت إلى إليزا التي كانت ترافقني في الحج، قرأت المشاعر نفسها في عينيها… كنت أنا أيضاً تملأني الأحلام والتوقعات، يد زوجتي في يدي، هل يوجد ما يعمق حياتنا أكثر من الحج؟ وجدت نفسي مجبراً على التفكير في سندباد من جديد، فحين غادر شواطئ بلده، كان مثلي تماماً – لا يفكر فيما يجلبه المستقبل، لم يتنبأ ولم يخطر بذهنه كل ما وقع له من مغامرات كل ما أراده أن يتاجر ويكسب مالاً، بينما لم أرد أنا إلا أداء الحج، ولكن حين وقعت له تلك المغامرات كما وقعت لي مغامراتي، لم يستطع أيٍّ منا بعدها أن ينظر إلى العالم، كما ينظر إليه قبل مروره بتلك المغامرات.
ومع أنه لم تصادفني أشياء غريبة في طريقي مثل جان أو عفاريت مسحورة أو طائر رخّ عملاق مثلما صادف السندباد بحار البصرة، إلا أن حجي الاول كان مقدّر له أن يعمق حياتي أكثر مما عمقت حياته المغامرات العجيبة الذي صادفته.
أما إليزا، فقد كان الموت ينتظرها هناك، ولم يكن لدى أيّ منا أي توقع بمدى قربه منها، ولكنني لم أدرك أنني أغادر ماضي كله وأتركه خلفي، ودون أي إنذار، وصل عالمي القديم إلى نهايته، عالم أفكار الغرب ومشاعره، ومساعيه وتصوراته ومفاهيمه.
كان باب عالمي القديم يغلق في صمت من خلفي، صمت مطلق حتى أنني لم أدرك ذلك ولم أشعر به، اعتقدت أنها رحلة مثل كل رحلاتي السابقة التي تحولت فيها في بلاد أجنبية، وعدت بعدها إلى ماضيّ الذي تركته، إلا أن الأيام ستكشف عن وجه آخر، تتغير معه كل إتجاهات آمالي ورغباتي.
هكذا يروي ليوبولد فايس حكايته عن تجربة عاشها حتى إهتدى إلى إسلامه، وهو يقول في ذلك بان ما يرويه في هذه المذكرات لا يعدّ سيرة ذاتية لامرئ يشعر بالخفر لدور قام به في الحياة العامة، كما لا يعدّ رواية لمغامرات خاضعها، على الرغم من أنه صادف مغامرات عجيبة، فإنها لم تمثل بالنسبة له أكثر من مجرد أحداث مرافقة ومصاحبة لما كان يدور في داخله وما يصادفه، عدا كل ذلك فهو لا يعدّ قصة رجل يفتش بقصد ونية عن إيمان عميق أو عقيدة بذاتها، فذلك الإيمان حلّ عليه عبورة رحلة السنين دون أن يسعى هو إليه…
حكايته ببساطة، وكما يقول، هي حكاية إكتشاف رجل أوروبي للإسلام كدين متكامل في أي مجتمع إسلامي، وصاحب هذه المذكرات ليوبولد فايس ولد لأبوين يهوديين بإحدى مقاطعات النمسا عام 1900 التي ضمت لألمانيا بعد ذلك، وتسمى بعد إسلامه بإسم محد أسد عام 1926، عمل صحافياً ومراسلاً لكثير من صحف وسط أوروبا وألمانيا وهولندا وسويسرا عن منطقة الشرق الأوسط وإيران وأفغانستان والهند، عاصر وشارك في كثير من الأحداث التي شغلت مستقبل المنطقة الممتدة في ليبيا حتى الهند قبل وبعد إعلان دولة باكستان الإسلامية المستقلة.
ومع قرب نهاية عام 1952 إستقال من عمله بوزارة الخارجية الباكستانية حيث كان يعمل مندوباً للحكومة الباكستانية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، فقد وجد بأن من الأجدى تكريس وقته لكتابة قصة حياته التي وإن بدت بسيطة له، إلا أنها بدت غريبة ومعقدة وغير عادية في نظر أصدقائه ومعارفه الغربيين من أوروبيين وأمريكيين.
وكان هدفه من تدوينه لقصة حياته في كتابه هذا أن يساعد، ولو بقدر ضئيل، في رفع تلك الحجب السميكة والأستار الثقيلة التي تفصل الإسلام وحضارته عن العقل الغربي، فقد كان طريقه إلى الإسلام، وكما يذكر، فريداً من عدة أوجه، فهو لم يتحول إلى الإسلام لأنه عاش زمناً طويلاً بين مسلمين، بل على العكس، كان قد قرر أن يعيش بينهم لأنه اعتنق الإسلام.
يقدم تجاربه الخاصة جداً للقارئ الغربي، علّه يكون أكثر نفعاً في تحقيق ولو البعض من الفهم المتبادل بين الإسلام وعوالم الغرب، مما يقوله في العمل الدبلوماسي.
الوزن | 642 جرام |
---|---|
اسم المؤلف | ليوبولد فايس( محمد اسد) |
اسم المترجم | رفعت السيد علي |
عدد الصفحات | 560 |
الطبعة | 1 |
سنة النشر | 2012 |
اسم دار النشر | منشورات الجمل |
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.