“وقال شرف الدين حسين بن زيدان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخبار ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان نظيفاً الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبياه؛ كلما وقفوا بين يديه؛ نظر إليها وإليه فأمرهما بالكف عنه، فأدنياه وقالا: يا أمير المؤمنين نحن إخوان شقيقان جديران بإتباع الحق حقيقان، كان لنا أب شيخ كبير حسن التدبير، معظّم في قبائله، منزّه عن الرذائل، معروف بقضائه، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل: لنا والد لو كان للناس مثله… أبٌ آخر أغناهمو بالمناقب.
خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب وعدل عن طريق الصواب؛ ونسألك القصاص بما جناه والحكم فيما أراك الله تعالى، قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت فما الجواب؟ والغلام مع ذلك ثابت الجأش خالِ من الإستيحاش، قد خلع ثياب الهلع ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان، ثم قال: يا أمير المؤمنين والله لقد وعيا ما ادّعيا وصدقا فيما نطقا وأخبرا بما جرى وعبّرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك؛ إعلم يا أمير المؤمنين أنى من العرب العرباء أَبيتُ في منازل البادية، وأصبح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها بنياق حبيبات إليّ عزيزات عليّ، بينهن فحل كريم الأصل كثير النسل مليح الشكل حسن النتاج يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فدنت بعض النوق إلى صديقة قد ظهر من الحائط شجرها؛ فتناولته بمشغرها فطردتها عن تلك الحديقة، فإذا شيخ قد زمجر وزفر وتسوّر الحائط وظهر وفي يده اليمنى حجر يتهادى كالليث إذا خطر؛ فضرب الفحل بذلك الحجر فقتله وأصاب مقتله؛ فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب تَوَقّدتْ فيّ جمرات الغضب فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به، فكان سبب حيثه ولقي سوء منقلبه والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني وأحضراني كما تراني، فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت وتعذّر الخلاص ووجب القصاص ولات حين مناص فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام؛ لكي لي أخ صغير كان له أب كبير خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل وذهب جليل؛ وأحضره بين يدي وأسلم أمره إليّ وأُشْهِدُ الله عليّ، وقال: هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك فاتخذت لذلك مدفناً وضعته فيه ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه يوم يقضي الله بين خلقه؛ وإن أنظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام وعدت وافياً بالذمام ولي من يضمنّي على هذا الكلام، فأطرق عمر ثم نظر إلى من حضر وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه؟ قال: فنظر الكلام على وجوه أهل المجلس الناظرين وأشار إلى أبي ذر دون الحاضرين وقال هذا يكلفني ويضمنني؟ قال عمر: يا أبا ذر تضمنه على هذا الكلام؟ قال: نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام؛ فرضي الشابان بضمانة أبي ذر وأنظراه ذلك القدر فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال؛ حضر الشابان إلي مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر قد حضر والحصم ينتظر فقالا: أين العزيم يا أبا ذر كيف يرجع من فرّ؟ لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا، فقال أبو ذر: وحق الملك الغلام إن أنقض تمام الأيام ولم يحضر الغلام وفيت بالضمان وأسلمت نفسي وبالله المستعان فقال عمر والله إن تأخر الغلام لأمضين في أبي ذر ما اقتضته شريعة الإسلام… “فهل يأتي الغلام وافياً بوعده أم ماذا”…؟!.
يتابع المؤرخ القصصي الشهير الأتليدي قصته هذه التي يرويها ضمن قصصه وحكاياته التي استهلها في ذكر عمر بن الخطاب لما رجع من الشام إلى المدينة، ومحدثاً عن خبر قبيلة بن الأيهم، مسترسلاً في قصص حول أول دولة معاوية بن أبي سفيان ثم حول ما وقع في أيام دولة عبد الملك بن مروان ومن تبعه من سلالة معاوية ثم قصص حول عمر بن عبد العزيز… ثم قصص حول ما وقع في أيام الدولة العباسية وسبب قتل البرامكة وما وقع لهم مع الرشيد وهكذا يمضي في قصصه حول ما جاء إبان الخلافة العباسية بأسلوب رائع هو السهل الممتنع بلاغة ومعنى.
الوزن | 336 جرام |
---|---|
اسم المؤلف | محمد المعروف بدياب الاتليدي |
عدد الصفحات | 312 |
الطبعة | 1 |
سنة النشر | 2015 |
اسم دار النشر | منشورات الجمل |
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.